الشعـرُ المغربيّ الحديـث والقـراءةُ العاشقـة*

 

 

1.

في إطار هذا اللقاء عن الأدب المغربي الحديث، أقترح عليكم مدخلاً إلى قراءة تتغيّا استنهاض أسئلة تمس “تجربة الشعر المغربي الحديث باللغة العربية”. تتعلق القراءة بكل من التاريخي وبناء النص وفعل الذات الكاتبة. وتعددُ أمكنة القراءة، هنا، يستقي غوايته من الانشطار المستمر للحقيقة على نفسها. إنها قراءةُ الانشقاق والنقصان. فهي تهيّئ الأسئلة لدوران الدائرة وانفتاحها اللانهائي على عدم الاكتمال. ذلك أن بداية السؤال هي مجرد احتمال ليس له أن يفضي إلى غير الاحتمال. لنقُلْ إنها بدايةٌ تأتي من المتَاه لتستمر فيه دائرة لها شكلُ حلزُون لا ينغلق أبداً.

هذه القراءة المقترحة أسميها “قراءة عاشقة”. فهي تنفي عن ذاتها أيّ سلطة، رغم أن كل لغة هي بالضرورة مأهولة بالسلطة. لذلك تتجاوب أمكنة نصية وخارج نصية في القراءة وتتقاطع، فيما هي القراءة تتبع طريقَ الرغبة. ويكون الفعلُ الثقافي، تبعاً لهذا السياق، بانياً لتصورات وموضوعات قابلة، في كل لحظة من لحظات سيرورته، بالهدم. على هذا النحو يتجاوب التاريخ مع الذات الكاتبة من خلال البنية النصية، فيضيء تاريخية الذات والبنية معاً، فيما هما يَسْريان في التاريخ سرَيان السمّ في الجسد الملدوغ.

2.

لهذه القراءة مهاويها أيضاً (كذلك هو المآل الذي يؤدّي إليه حتمُ انفتاحها). فتجربة الذات، وهي ترحل مع التاريخي، تكاد تتعرض للانكسار. ذلك أنها تتجاوز في بعض الحالات حدود المشترك، ما دامت تهَب فرادتَها، التي هي غير قابلة بالإعارة، إلى المؤتلف الجماعي. وما يبرّر هذا المسار ـ الرحلة هو أن الشعر المغربي الحديث مُغْفَل، يحتاج إلى قراءة وقراءة.

3.

إن الدراسات المخصصة للشعر المغربي الحديث نادرة. فأقدم عمل يتناول هذا الشعر يعود إلى 1929، وهو كتاب محمد بلعباس القبّاج الذي يحمل عنوان ” الأدب العربي في المغرب الأقصى”. ومرت فترة طويلة قبل أن يظهر كتاب “أحاديث عن الأدب المغربـي الحديــث” لعبــد الله كنون الصادر عن معهد الدراسات العربية العالية في القاهرة، سنة 1964، ثم جاءت أول دراسة جامعية من خلال كتاب إبراهيم السولامي “الشعر الوطني المغربي في عهد الحماية : 1912 ـ 1956″، الصادر سنة 1974، ويليه كتاب “ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب” الصادر في بيروت سنة 1979. وبالإضافة إلى ندرة هذه الأعمال، ثمة دراسات منشورة في المجلات والصحف، ربما كان أهمها هي التي نشرها محمد الأمري المصمودي، ومحمد زياد، وعبد الكريم غلاب، ومحمد الهرادي، وإدريس الناقوري، وعبد القادر الشاوي، ونجيب العوفي. ثم هناك دراسات جامعية أيضاً لم تصدر بعد في كتاب. وهي لكل من رشيد بنحدّو، وعبد الله راجع، ومحمد الزاهيري.

العدد المحصور للدراسات يدل على أن التناول النقدي لهذا الشعر محدود. مع ذلك يتبدّى لنا أن الشعر المغربي المعاصر يشد اهتمام الباحثين، شيئا فشيئاً، داخل المغرب وخارجه.

4.

يتجذر الشعر المغربي الحديث باللغة العربية في أقصى نداءات الصحراء التي نسميها عادة بالشعر الجاهلي. حينها كان الشاعر يمتطي ناقته أو فرسه ويرحل مع القبيلة أو بمفرده من واحة إلى واحة. والجذور البعيدة، هنا، توجد في مفهوم الشعر عند العرب، كما توجد في اللغة التي لا تزال تحافظ على أصوليتها في المكتوب عبر أطراف العالم العربي.

غير أن هذه المُسلّمة الأولية تحجُبُ عنا طبيعة الشعر المغربي الحديث. لأن الانتماء إلى أُمٍّ واحدة هي اللغة العربية، والاندماج في الشعرية العربية، غير كافيين. لقد تركت العهودُ السحيقة، والمسافاتُ المتباعدة، والأوضاعُ الاجتماعية والسياسية المتباينة، آثارَها على جسد الشعر المغربي. ومن الطبيعي أن تكون خصيصة هذا الجسد بارزةً عبر مسار طويل. وهي لا تزال تتكلم في النص الشعري الحديث.

5.

منذ أواسط العشرينيات أدركت الشبيبة المغربية أن النموذج الشعري التقليدي السائد في المغرب بعيدٌ عنها، ولا يستجيب لما تريد من الشعر. وقد جعلت فترة ما يسمى بـ”الانحطاط” من هذا النموذج التقليدي مجرد قوالب عروضية وتراكيب لغوية فارغة من أي تجربة إنسانية لها صيحةُ الإبداع ومسافةُ الحرية. لذلك اتجهت هذه الشبيبة نحو البحث عن لغة أخرى، وعن سمَة جديدة لهذا الفعل اللغوي الفريد. وهو بحثٌ يتجاوب مع مدّ “النهضة” الشعرية العربية في المشرق. يدخل في مغامرتها من أجل إعادة صياغة الرؤية إلى الوجود والموجودات، واستبطان الحساسية الآخذة في التبلور بفعل التبدلات التي أصبحت تشرط النسيج المغربي، اجتماعياً، وسياسياً، وتاريخياً. وأبرز هذه التبدلات بداية استقرار السيطرة الاستعمارية على المغرب، وخاصة بعد استسلام عبد الكريم الخطابي، زعيم المقاومة المغربية بجبال الريف في الشمال، سنة 1925.

كانت الشبيبة الطلابية الوافدة آنذاك من جميع أنحاء المغرب على مدينة فاس تتحلّقُ حول نافورة جامع “القرويين” لتقرأ الشعر المهاجر من المشرق، وتتبادل الرأي في مجهول المغامرة الشعرية، إلى جانب انشغالها بنتائج حرب الريف على وضع المغرب والمقاومة. ومن ثم امتزج التجديد الشعري بالانخراط في الفعل التحرري. فكان علال الفاسي أحد عناصر الحركة الوطنية، ثم زعيمها فيما بعد، إلى جانب كونه شاعراً يستوحي باستمرار نموذج الشاعر العربي القديم الذي غنّى للبطولة، وقطف صوره الشعرية من مجازات الصحراء. علال الفاسي أحد أفراد كوكبة شعرية نذكر من بينها أيضا كلاًّ من محمد المختار السوسي، وعبد الله كنون، ومحمد بن إبراهيم، كرموز شعرية برزت في هذه الفترة. ثم ذهب كل واحد من أفرادها، بعد ذلك، إلى اتجاه لا يُشبه اتجاهَ سواه.

ومع الحرب العالمية الثانية، تبدت حدودُ هذه التجربة الشعرية، التي كانت تعتمد البوح والإنشاد والتوجّه المباشر نحو القارئ، الذي هو مستمعٌ بالأساس. فكان الجوابُ الرومانسي، رغم حيائه، أكثرَ قدرة على ترسيخ صورة مجتمع جديد، يعاني من قسوة الاحتلال الاستعماري ومن ضغط التقاليد الشعرية. لقد كان المجتمع المغربي الجديد يتوق إلى تبني معالم الحرية وأسس الاندماج في نهضة الشرق، التي كانت مصرُ نموذجَها العربي، وإلى الانفتاح على ترقّي الغرب. وكان الشاعر الرومانسي يستوحي، هذه المرة، نماذج شعرية أروبية مترجمة إلى العربية، خاصة لشعراء مثل فيكتور هوجو ولامارتين، شيلي وكيتس، غوته وبوشكين.

6.

إن وعْدَ الاستقلال لم يتحقق بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أن تقديم “وثيقة المطالبة بالاستقلال” من طرف الوطنيين المغاربة كانت الاعتقالاتُ والمنافي والإعدامُ جوابَ الاستعمار عليها. وهاتان الواقعتان من أبرز ما شجّع جيل الأربعينيات على الانكفاء على الذات والإنصات إلى عتمة الدواخل. هكذا انبثقت جماعة من الشعراء المغاربة، يمثلها كل من عبد القادر حسن وعبد المجيد بن جلون، وعبد الكريم بن ثابت، ومحمد الحلوي. ثم اتسعت الدائرة فيما بعد لتشمل إدريس الجاي، ومحمد الصباغ، وعبد القادر المقدم، وعبد السلام العلوي، ومحمد السرغيني. وهذه الأسماء، باختلاف الأعمار والأساليب، ولّدت مناخاً شعرياً له الأنين والهمس والغربة والمناجاة، أي هذه السياجَ العاطفيَّ الذي يجعل من الرومانسيين عائلة واحدة.

لقد بدا الاندماجُ في الحركة الرومانسية العربية واضحاً لدى هذا الجيل الذي اتسعت أمكنةُ إقامته، في كل من تطوان والعرائش وطنجة وفاس والرباط ومراكش. كما حقق تواصلاً بينه عبر المجلات والصحف التي كانت تصدر في كل من تطوان والعرائش والرباط على الخصوص. وهو ما منحهُ حماية من القدماء، ووحّد لغتَه وفضاءَه الشعريين في إشراقات صور الحبيبة والطبيعة والوطن.

7.

في عز سنوات الأولى من الاستقلال (بعد 1956) أعلن الشعر عن ضرورة التجديد من أفق آخر، هو اعتماد الواقع اليومي، الاجتماعي ـ السياسي، كمنطلق لتصور لا يُسالم القوالب الشعرية التقليدية والرومانسية. وقد كان يفيد من التحولات الشعرية في المشرق العربي، وهي تؤسس للحرية الشعرية فضائها الكوني، وتخرج بذلك على ضوابط العروض التقليدي والبنية السائدة للقصيدة العربية. إن هذا الجيل عرف اتصالاً أوسع بالشعر الإنساني، في كل من أروبا وأمريكا وروسيا. وقد كان للشعر الحر تأثيرٌ كبيرٌ عليه. ومن ثم نلاحظ في هذه الفترة عدداً من القصائد التي تتخلى عن اتباع النمط التقليدي والرومانسي، وتشرع في مغامرة بناء للقصيدة يبحث عن نموذج له في المستقبل لا في الماضي.

هذه التجديد هو الذي سيعثر على نماذجه المتميزة مع أواسط الستينيات من خلال قصائد أحمد المجاطي، ومحمد السرغيني، ومحمد الخمار (الكنوني) ومحمد الميموني، وأحمد الجوماري، وعبد الكريم الطبال. فهؤلاء الشعراء أصبحوا قريبين من المغاربة، الذين وجدوا أنفسهم في متاه الاختيارات السياسية، وتوالي مشاهد الإخفاق. كما أن المعرفة الشعرية لدى هذه المجموعة مكّنتهم، رغم تفاوتها، من ترسيخ قصيدة مغربية نلمس فيها جرأة التجريب، واقتحام الحدود، وافتتاح غرابة اللغة. أي الشروع في ضرورة إعلان الانتماء إلى الحداثة الشعرية. وهذا منْ بين ما ولّد انفصالاً نسبياً بين الشاعر والقارئ. على أن الانفصال هو نفسُه الذي سمح بوجود الحق في ممارسة شعرية مغايرة.

وتكون السبعينيات فترة اتساع وتنوّع التجارب الشعرية. وهي الأبعد مغامرة. تكاثر فيها عددُ الشعراء الشبان، وانطلق البحث عن خصوصية القصيدة المغربية، ضمن القصيدة العربية، بذائقة نقدية مرة وباحتضان دم وحيد مرة أخرى. هنا أيضاَ نلتقي بجيل يحتمي بالرفض والقلق والمهاوي السحيقة. لكأنّ فترة السبعينيات تحولت إلى نار مقدسة توقدها الشبيبة في أعضاء الكلمات، فتأتي القصيدة بحثاً مستمراً عن أشكال لا مُستقرّ لها. وها نحن الآن نستطيع أن ندرك الأثر الذي حفرته قصيدةُ السبعينيات في جسد الشعر المغربي الحديث بعنف المساءلة، وبانتهاج طرائق غير مألوفة في التصورات الشعرية السائدة.

لهذا الجيل أنتمي. وإحساسنا بالانضغاط بين التقليد الشعري العربي  وبين عدم التمكّن من حرية اختراق الحلم الشعري، هو ما وحّد لغة التدمير فينا. كما لو أنّ كل واحد منا كان يختزن طاقة الأجيال الشعرية السابقة عليه وهو يختلي، في طقوس الكتابة، بنسكية الباحث عن كلماته الأولى.

8.

إن تجربة الشعر المغربي الحديث تنْضَح بدمها الشخصي. فضغط التقليد، بما هو منحدرٌ عبر تاريخ طويل له منابعه في صحراء الجزيرة العربية منذ العصر الجاهلي، عرف دوماً، في سياقه المغربي المعقّد، كيف يترك الشعر المغربي خارج الشعر. وما تلك المظاهر، التي نلاحظها عبر امتداد تاريخنا الشعري الحديث، من خشية الخروج على القواعد والتصورات التقليدية، وانقطاع الكتّاب عن الكتابة وهُـمْ في توهج الشباب، وتبعية الشعري للسياسي، وتجنّب الصراع النظري حول الشعر ووظيفته ومساره ومستقبله، سوى تأكيد على ضغط التقليد. لذلك فإن التجديدَ الشعري الذي اخترق الزمن المغربي الحديث، قبل السبعينيات، كان يعثر على حُجّته في حركة التحديث الشعري في المشرق. وعليها كان يستند في إقرار اختياراته. وهو ما لم يَكنْ كافياً. فالشعر المغربي، في هذه الحالة، لم يكن إلا صدى يفتقد القدرة على إبدال القانون القديم الذي حكم علاقة الشعر المغربي بالشعر المشرقي. وهي العلاقة التي كان لخّصها ابن عباد في الاستشهاد القرآني “بضاعتنا رُدّت إليْنا”. ونحن نعلم اليوم أن هذا الحكم لا يصْدق على كل الشعر المغربي ـ الأندلسي في القديم، وخاصة الموشحات. ولكن خضوع الشعر المغربي الحديث لسلطة التقليد لم يكن متناسباً مع احتجاجه. لأن الاحتجاج (إلى جانب الخضوع) ضرورة ملحة لكل فعل إبداعي مندمج في المسار العام الذي يحدد الحقل الإبداعي.

ولا شك أن الشعر المغربي الحديث يلتقي في هذا الوضع مع شعر بلدان المغرب العربي، ومع ما يمكن تسميته بالمحيط الشعري، حيثما وجد، في مشرق العالم العربي ومغربه. وهو وضعٌ تشرطه عوامل ثقافية ـ لغوية، كما تشرطه عوامل اجتماعية ـ تاريخية، لم ينجُ منه إلا شعراء نادرون، وفي طليعتهم الشاعر التونسي الكبير أو القاسم الشابي.

إن ما أصبح عليه الوضع الشعري، في مغرب السبعينيات، يكاد يكون قلباً لهذا القانون. فالدور الذي لعبه الشعر المغربي بالفرنسية في تحرير الطاقات الشعرية، والتفاعل الخصيب بين جيل السبعينيات والشعر الإنساني، في جهات العالم الأربع، عن طريق اللغة الفرنسية خصوصاً ثم الإسبانية في بعض الحالات، والمستوى الثقافي المتقدم لهذا الجيل الذي حصل على مستوى علمي أرقى، واتساع وعمق الاتصال المباشر لشعراء المغرب في الفترة ذاتها مع شعراء المشرق، كأدونيس، وعبد الوهاب البياتي، وسعدي يوسف، ومحمود درويش، عملت كلها على قلب القانون السابق. وهي من بين العوامل المُنشبكة التي أعطت القصيدة فضاءَ حريتها. ومن ثم كفت التجربة الشعرية لديّ، كما لدى أصدقائي، عن أن تكون محصورة في وطنية عمياء تخشى أفقها الإنساني.

9.

كانت التقاليد الشعرية القديمة تفرض على الشاعر المغربي إلقاء قصائده في المجالس الخاصة بالفئات العليا للمجتمع، وفي مقدمتها مجالسُ الملوك والوزراء. ومع ظهور الحركة الوطنية المغربية أخذ الشعر موقعاً آخر في المحافل والمهرجانات السياسية والأدبية. وهو استمرار للتقاليد الشعرية القديمة المعتمدة على الإنشاد.

على أن العصر الحديث لم يُعْط الشاعر المغربي إمكانيات أوسعَ للاتصال بالجمهور. فالمهرجانات الشعرية نادرة، وأهمها المهرجان لذي تنظمه “جمعية المعتمد بن عباد” في مدينة شفشاون، المعلقة بين جبال الريف، والمزهوّة بمائها وأشجارها وحجرها المسنّن. لكن هذا المهرجان ابتدأ فقط سنة 1965 ثم توقف سنة 1969. وأعادت الجمعة محاولة تنظيمه سنة1983 فكان منعه من طرف السلطة المحلية. وفي مارس من هذه السنة (1983) انعقد المهرجان في جو نفسي يطبعه القلق الكبير الذي أصبح يحس به شعراء السبعينيات والثمانينيات إزاء قضايا متراكمة وأسئلة مُلحّة لا تجد المجال الطبيعي لتبلورها والتداول بشأنها.

أما طبع الدواوين فهو حديث العهد أيضاَ، ومؤرخ بسنة 1936. وفي 1937 صدر الديوان الأول لمحمد مكوار، ثم قام الشاعر في بداية الخمسينيات بجمع نسخ ديوانه وإحراقها. وعدد الدواوين الصادرة حتى الآن في المغرب لا يصل إلى 120. هذا عدد ضئيل. إلا أن الإحصائيات لا تقدم لنا كل شيء. لذلك نقول إن نسبة 85 في المائة من هذه الدواوين صدرت منذ 1970 حتى الآن، وأغلبها مطبوع على نفقة الشعراء. كما أن الموزعين المغاربة لم يبدأوا يحفلون بهذه الدواوين، بل بالأدب المغربي، إلا مع السنوات الأخيرة. والنادر هو الذي استطاع الظفر بالطبع خارج المغرب، في بيروت أو بغداد أو دمشق. ولذلك فإن ما هو معروف من شعر مغربي خارج المغرب منشور عبر المجلات العربية. أما النشر في المغرب فكان باستمرار يتم عبر الصحف والمجلات الثقافية المحدودة العدد.

10.

قد يرى البعض في هذا العلاقة الشعرية بين المشرق والمغرب نفسَ العلاقة الموجودة بين شعر إسبانيا وأمريكا اللاتينية، أو بين شعر فرنسا والمناطق الكاتبة بالفرنسية، في إفريقيا عل الخصوص. ومع ذلك فإن هذه المقارنة الممكنة، والمفيدة في تقريبنا من وضعية الشعر المغربي، غير سليمة في كليتها. إن التاريخ حاضرٌ في العلاقة بين المغرب والمشرق  بصيغة أخرى، تختلف عن تلك الموجودة في النموذجين السالفين.

ويساعدنا التحقيب والتصنيف السابقان على لمس جملة من القضايا الإضافية. في مقدمتها الانتقال من الإنشاد إلى الكتابة، ومن الدارجة (واللهجات) إلى العربية الفصحى. هذه الحالة مشتركة بين حركات التجديد في الشعر العربي الحديث. ولم يكن المغرب يقدم جواباً بقدر ما كان يستوحي الجواب العربي من المشرق ليعيد إنتاجه في المغرب، فيما كان الشعراء العرب في المشرق عادة ما يبحثون عن الجواب في الحداثة الشعرية الغربية. لذلك نقول بأن الشعر المغربي بالعربية ظل بعيداً ثقافياً عن أروبا رغم أن المغرب قريبٌ منها جغرافياً. أما الحالة الثانية فهي أن الملحون كان يشكل التيار الغالب للشعر المغربي القديم. وهو الشعر المكتوب بالدارجة المغربية. وقد كان على الشعر بالعربية أن يستوعب هذه الوضعية التاريخية، فينتقل بالشعر إلى اللغة المشتركة، العربية الفصحى، لما تقدمه من إمكانيات التحديث. وربما كانت هذه الوضعية غير مفكر فيها رغم أنها تمارس فعْلها في اللاوعي الجماعي.

11.

لقد أشرت من قبل إلى أن الشاعر المغربي في العصر الحديث حدد للنص الشعري إستراتيجية جديدة، هي أعطاء معنى تاريخي ـ  اجتماعي للممارسة الشعرية، بعد أن جعلت منها التقاليد، منذ القرن الثاني والثالث عشر، مجرد قوالب عروضية وتراكيب لغوية لا تعتمد على أي تجربة إنسانية. ولكن هذا المسعى سيجد في المغرب، بعد 1956، صيغته المثلى في دعوة سارتر للالتزام. ومن الجلي أن الشاعر المغربي الحديث لم يتبنَّ هذه الدعوة من غير معاناة على مستوى البناء النصي. هذا ما عكَس باستمرار لحظات المدّ والجزر. أعني التوزّع بين لحظات الاستجابة للجمهور الذي يلح على الموقف السياسي الرافض لمتاهات الاختيارات السياسية التي عاني منها المغاربة بعد الاستقلال، وبين لحظات الإنصات إلى الفعل الشعري ذاته، كفعل للشمول، حيثُ يكون الصراع الاجتماعي مُتضمَّناً داخل “قبيلة الكلمات”. وقد عاشت الأجيال المتعاقبة الرحيلَ بين هذين الحدين بقلق مأساوي. ولم يتدخل النقد في توضيح الحدود أو مرافقة كل من الشاعر والجمهور في مسارهما الذي يتطلبه التفاعل.

12.

إن الشعر المغربي الحديث بحاجة إلى قراءة عاشقة. قراءة تحرره من الشرائط النقدية والثقافية العامة التي تحاصره بسلطة قضائية وبمحاكم تفتيش لا تفعل شيئاً غيْر إبدال أقنعتها. فمستقبل الشعر والشاعر المغربيّـين، باللغة العربية، رهينٌ برفع الموانع المتعددة التي تحول دون انغراسه في أعماق التربة المغربية. وإذا كانت الموانع تكشف عن طرق أخرى فإن هذه الطرق ليست آمنة في جميع الأحوال. ولن أبالغ إنْ أشرت هنا إلى أن الشاعر المغربي الحديث بالعربية، خاصة، يكاد لا يعرف وضعه الاجتماعي، كما أنه لم يعد متأكداً من أن ممارسته الشعرية انتماء فوري لسياق رؤية فاعلة في تجاوبات ظروف الراهن المغربي.

لقد عانيتُ، كما عاني أصدقائي، من هذا الفضاء المغْلق الذي يرغمنا في كل لحظة على الرؤية إلى الكتابة الشعرية كممارسة مجنونة، لا تفضي في النهاية إلا إلى احتباس الصوت. كان التقليد يمنع الحوارَ مع التجربة الإنسانية، وفي الوقت نفسه يمنع الحوار مع موروثنا. وهذا مظهر للضغط الذي ضاقت به أنفاسُ جسدنا المنهوش. إن انفجار الخط المغربي، في بعض التجارب النصية التي أنجزتها إلى جانب صديقي عبد الله راجع وأحمد بلبداوي، واجهَهُ استمرارُ صيغ الكبْت من طرف جملة من  الدراسات النقدية. وكثيراً ما أعلنّا أن الخط المغري تملّكٌ شعبيٌّ قبل أن يكون إمضاءً سلطوياً. ولكن مَنْ يمكن أن يقاسم الجسد انفجارات الكتابة ؟ ومن يستطيع تقبّل أن تجربتنا الشعرية هي بالأساس سؤالٌ يتوجّه إلى اللغة وتأملٌ فيها، فيما هي تتأمل انشطار عالم يتشظى من حولها.

لست متفائلاً ولا متشائماً. بدلاً من ذلك أتساءل : هل يستطيع الشاعر بمفرده تجاوز الموانع التي أعلنت عن الطرق المسدودة لكل من سبقوه ؟ هل مستقبل الشعر والشاعر المغربيين بالعربية هو على غير نموذجه في الماضي ؟ كيف يمكن لمجتمع تقليدي أن ينفـتح على عذابات كتابة تحتمي بعتمتها وضوئها في آن ؟

إن الشعر العظيم لا يولد في كل لحظة. والشاعر لا يمارس بطولة أو شهادة. وحيداً يصاحب ليل القصيدة. يسير بين الأعشاب والظلال والحجارة. ربما يعثر ذات يوم على ضوء ينبثقُ فجأة من أنحاء ماء أو تراب. يسيرُ وحيداً، وهو يبصر عائلة الشعراء بكل اللغات تشير إلى نار الخلق. ولكن : كيف يجرؤ الشاعر المغربي بالعربية على أن يحدّق في كلمات لها المحوُ والنسيانُ والنقصان، كلمات لا تشبه الكلمات ؟

*كلمة ألقيت في ندوة عقدتها كلية الآداب عين الشق بالدار البيضاء سنة 1983، ونشرت في مجلة بصمات، التي تصدرها الكلية نفسها، العدد 1، 1984.