عبد الإله بلقزيز
دعوني، في المعْرض هذا، أبوح لكم بشعورٍ شخصيٍّ ظلّ يخامرني كلّما فكّرت في تجربة مجلة “الثقافة الجديدة“، وخاصةً في نجاحها اللافت في أن تكون مع اليسار وعلى مسافةٍ منه في الآنِ عينِه، وفي أن تكون مع الموروث في صلتيْن جدليتيْن من الاتصال والانفصال، وفي أن تنتمي إلى الحداثةِ من غيرِ تقليدٍ واتّباع؛ ومفادُ الشعور هذا أنّ مكْمَن السرّ في نجاح هذه الكيمياء العجيبة المتوازنة إنما هو في شخص مهندسها ومايسترو أوركستراها الصديقِ الشاعرِ والباحثِ الأستاذ محمد بنيس؛ فلقد اجتمعت في شخص الرجلِ مواردُ هذه الكيمياء وموادُّها كافة، فَصبَّها جميعَها في التركيبة التي تخلَّقت منها “الثقافةُ الجديدة“: فإلى أنّه ابن اليسار الجديد، مذ كان طالبًا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد بن عبد الله بفاس، في النصف الثاني من عقد الستينيات من القرن الماضي، ورمزٌ متقدّم من رموزه الثقافية، كان-وما يزال-شاعرًا. وهو في الشعر ما أجَّر لسانَه لقبيلةٍ سياسية، وإنما تركه يبحث لنفسه عن مداهُ الجماليِّ والإنسانيِّ، ويعيش ثورتَه في أصالةِ انتمائه إلى تقاليدِ الكبار السابقين. وإلى احترام محمد بَنيس للفواصل، غيرِ القابلة للهدر أو الانتهاك، بين الثقافيِّ والسياسي احترامًا لا تُنْتَقَضُ به حُرمَةُ الثقافة، ولا تُدفَع فيه هذه إلى تقديم السُّخرةِ إلى السياسة، تضايَف في تكوينه ووجدانه-تضايُفًا خلاّقًا-الوَلَعُ بالقديم والولع بالحديث في آن: التكوين الرصين على الأصول العربية بالتكوين الدائب على معطيات الحداثة الثقافية والأدبية. ولقد وجد ذلك لنفسه تصريفًا ماديًا سلسًا في المشروع الثقافي الذي قادَهُ تحت عنوان “الثقافة الجديدة“؛ فوفّر له جمهورَهُ الاجتماعي-الثقافي، المتلقّي والمتفاعل، في مغرب السبعينيات ونصفِ الثمانينيات الأوّل. وهكذا ضمِن محمد بنيس للمجلة-بأثرٍ من تكوينه الخاص وسجاياهُ الشخصية-بأن تكون (=أي المجلة) على المثال الذي كانتْهُ: مرآةً لصورةِ صاحبها. ومن حسن حظِّه أنّ مَن قاسموهُ مسؤولية الإشراف على تحريرها-وفي جملتهم نقّاد وقصاصون ومسرحيون…-قاسموه الإيمانَ عينَه بنوع الثقافةِ الجديدة المطلوب.