عن الحق في ا لشعر

0

 

 

 

 

 

1.

قد تبدو عبارة “الحق في الشعر”، التي تتقدم (من جهات مختلفة) كعنوان لهذا الكتاب، مزعجة مثلما قد تبدو بلهاء، متلبّـسة باستجداء الشفقـة. لا هذا ولا ذاك. فكلمة الحق – الحقوق أصبحت مخصوصة بالفضاء الحيوي للإنساني، مجتمعاً وفرداً، بعد أن عثرت في الفكر الفلسفي والحقوقي على أرضيتها النظرية وعلى ضوابطها القانونية. لكلمة “الحق”، هنا، صوتُها الخاص أيضاً. ولن أبحث لهذه العبارة، التي استضافت الحق جنباً إلى جنب مع الشعر، عن تبرير يخرج عن منطق الشعر ذاته. لنقلْ إنها شطحة. وهي بذلك توسّع المعنى وتوسّع الرؤية إلى المعنى. قريباً أو بعيداً من فضاء الحيوي الإنساني يصبح الشعر حقاً من هذه الحقوق، أو هو، أكثر من ذلك، يُعيد معنى كلمة الحق إلى أرضها، التي فيها للشعر والحياة منبعٌ واحد. تثقب العبارة بحرية اختيارها السور، الذي يحاصر الشعر في العقود الأخيرة، هناك وهنا. إنها، وهي تثقب (هـذا) السور، تقاوم من أجل الشعر وما يتجاوز الشعر. مقاومة تلتقي فيها كلمة شعراء ومفكرين، وهي تعلن عن فكرة جديدة لمعنى وضرورة الشعر في زمننا.

لا شك أن العولمة استدعت أكثر من غيرها هذه المقاومة. فمنطق العولمة، النفعي، قائم على هجران الشعر، لأنه لا يُرضي الاستهلاك ويتعارضُ مع الامتياز. وتظل الحرب على الشعر رافعةً نفيرها غربياً وعربياً، على السواء، كما لو أن الانتصار لغير الشعر يستلزم بالضرورة الحربَ على الشعر. فالشعر لا يعلن حرباً على فن ولا على معرفة، فيما هو يتجاهـل الاستهلاكَ ويتحاشى الامتياز.

 

2.

كلما تأملتُ حياتي الثقافية تبيّـن لي أن الحق في الشعر كان دليلي إلى الشعر وإلى الحوار مع الشعر وفيه. وها هي تأملات، في صيغة دراسات ومداخلات ومناقشات وشهادات ترسم، عبر ما كان لي من مشاركة أو استجابة لدعوة أو ظرفية ثقافية، عبارة “الحق في الشعر”. منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي كان التأمل ينزل نحو السـريِّ الذي لم يكن  لي أن أطوف بحدوده لولا هذه النداءات التي كانت تحرّضني على التأمل في الوضع الشعري، عربياً وإنسانياً. مهرجانات أو ندوات، مجلات أو صحف، في الغرب خصوصاً، كانت المساعدَ على إنجاز ما لم يكن لي أن أنجزه في مغرب لا يطلب في العادة مني أن أتكلم، إن هو، بلباقة أو بوقاحة، لمْ يمنعني من الكلام. مفارقة لها أن تؤديَ إلى الجنون، بكل اختصار. تعوّد المغاربة، منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، على أن يطلبوا من الآخر الإنصاتَ إلى أعمالهم الأدبية، ولكن هـؤلاء المطالبين هم في أغلبهم الذين لا أعثر لديهم على حرية التعبير كما لم يعثرْ عليها لديهم عـديدُون مثلي من المغاربة، سابقون أو حاليون. ثم  إن هذا الآخر، الذي نفترض فيه منعنا من الكلام، هو نفسه الذي أعثر، داخل تعدده، على من يُعطيني حرية الكلام بدون مقابل. من ثم يصبح الوعي بهذه المفارقة ملازما للكتابة ولحرية الكتابة.

 

3.

تأملاتٌ امتزج فيها الوضع الدولي للشعر بوضعه، عربياً ومغربياً. وفي الممارسة (ممارسة الشعر والتأمل في الشعر) تنتـفي الحدودُ بين الوضع هنا والوضع هناك. ما يثْـبُتُ هو إدراك طبيعة كل وضع في تاريخيته وفي تفاعله مع سواه. ويكون تمييزٌ كهذا ضرورياً عندما نكون صادرين في قراءتنا عن الزمن الشعري كما هو متحقق في مكان دون مكان. فلا نستطيع تأملَ الوضع الدولي للشعر ونحن ننسى (أو لا نفكر) في الوضع ذاته عربياً  أو مغربياً. ربما كان ذلك من بديهيات الاشتغال على الوضع الشعري بالنسبة لمن لا يتخلى عن تعدد الأزمنة الشعرية التي يعيشها في القصيدة وبالقصيدة. والتنصيص على بديهيات لم تعدْ بديهيات تجنبٌ للالتباس الذي تسْعَـد به خطاباتٌ وهي تتناول المسألة الشعرية في زمننا.

 

4.

في هذه الأزمنة المتقاطعة، المتجاوبة حيناً والمتجافية حيناً آخر، يكون “الحق في الشعر” مشتركاً كلما كانت الفكرة الجديدة منفتحةً على شجرة نسَبها وعلى حركيتها ولانهائيتها. نعم، على الشعر أن يقاوم الهجران في زمن عولمة يترك الشعر وحيداً في خرائب المنفَى. والمقاومة بالفكرة الجديدة هي الذهابُ نحو الزمن ضد الزمن، من أجل أن نبقى قريبين من الأساسي في الشعر، ومن أجل أن نعطي الحيوي والإنساني معنى لا نضيفه إلى المعاني المعترف بها بل نجعل منه أفقاً من آفاقها القادمة (في المستقبل) من المستقبل والمجهول معاً، على طريق لنا، نختارها بحرية أن نختار.

 

المحمدية، في 22 . 04. 2006.