1.
ثمة ذكريات ولحظات ومواقف في الحياة يستعصي نسيانها أو إخفاء الجميل منها. ذلك ما استخلصته من حياتي ومن تفاعلي مع كتاب وأدباء وفنانين، من العرب وسواهم في العالم. استخلصت، وأنا أعلّم نفسي كيف أقاوم الجحود والإلغاء السائدين في حياتنا الثقافية، حتى أحيط نفسي بسور يحميني من ادعاء أنني لم أكن بحاجة إلى غيري في بناء هذه الحياة التي هي اليوم أنا. لكن الذكريات واللحظات والمواقف تنتظر وقت عودتها إلى الاستحضار والتأمل، في سياق حياة بشرية، وزمن، وقيم الزمن الذي نعيشه اليوم.
وكانت وفاة محمود درويش صدمة أيقظت من جديد عوالم تقاسمتها وإياه عبر أكثر من ثلاثين سنة، بين الرباط والمحمدية وبيروت وتونس وباريس، أو عبر مدن وبلاد أخرى كانت لنا فيها لقاءات مشتركة وندوات. وفي الحالات جميعها ظل ما مضى يتجاذب، خلال الأيام الأولى من رحيل محمود درويش عنا، مكان الأسبقية دون أن يكون لي اختيار في ذلك. على أنني، هنا، أريد أن أقدم شيئا من الوقائع الفريدة في ثقافتنا العربية الحديثة التي عشناها معا بأنفاس ملحمية. أعني هنا استضافة محمود درويش لمجلة “الثقافة الجديدة” في مجلة “الكرمل”. هي استضافة ذات تاريخ ثقافي عريق في حياتنا الثقافية القديمة وفي الثقافة الإنسانية الحديثة. ثم هي أيضا استضافة لها أبعد الدلالات، في التشبث بالقيم الثقافية العليا. أعطيها مرتبة التاريخ والدلالات الأبعد لأنها آخذة في الاختفاء من سيرتنا الحالية. مثقفون نادمون عليها ظنا منهم أنها لطخة لوثت تاريخ الثقافة والمثقفين.
2.
لنبدأ من البداية.
“الثقافة الجديدة” مجلة مغربية، أدبية، فكرية، فنية، كنت مديراً مسؤولا عنها، وإلى جانبي هيئة تحرير مؤمنة بالفكرة (مصطفى المسناوي من العدد الأول حتى الرابع، ومحمد البكري وعبد الكريم برشيد في العدد الخامس، وعاد مصطفى المسناوي إلى جانبنا نحن الثلاثة بعد إطلاق سراحه مع العدد السادس، وانضم عبد الله راجع إلى هيئة التحرير ابتداء من العدد التاسع، فيما انسحب مع هذا العدد عبد الكريم برشيد لما كان يأخذ المسرح من وقته، وانضم محمد العشيري إلى هيئة التحرير ابتداء من العدد المزدوج السادس والعشرين/ السابع والعشرين. وكان إلى جانبنا في الفترة الأخيرة فاضل يوسف). انطلقت المجلة سنة 1974 بعددها الأول واستمرت في الصدور عشر سنوات. غابت عن الحياة الثقافية حين أصدر وزير الداخلية السابق إدريس البصري يوم 25 يناير 1984 أمرا بتوقيفها، على إثر الأحداث الدامية، التي تفجرت يوم 19 يناير في عدة مدن مغربية. ومن نتيجة التوقيف تمت مصادرة نسخ العدد الثلاثين الذي كان صدر في ديسمبر 1983 وحجزها من السوق. اختصار لا يكفي لمن لم يسبق له أن عرف هذه المجلة المغربية وما كان لها من دور في إحداث حركية مست الثقافة المغربية، بين السبعينيات والثمانينيات. كان كتاب ومثقفون عرب يتابعون المجلة ويشاركون فيها مع كتاب وأدباء وفنانين مغاربة أو كتاب من العالم. توقيفها كان مصادرة لحق حرية التعبير، وكان إيذانا بمرحلة أخرى من سنوات العذاب الجماعي.
بمجرد ذيوع خبر التوقيف والحجز، أخذ التضامن مع المجلة يتوافد علينا من أصدقاء ومؤسسات. فيما كنا نحن في المجلة مرعوبين من اقتحام الشرطة المطبعة واحتجاز المواد التي كنا نهيئ بها ملف العدد الموالي، الحادي والثلاثين، الذي تم الإعلان عن مواده في العدد الثلاثين. عدد خاص بالمسألة الثقافية في المغرب، بعد أن كنا خصصنا ملفات في أعداد سابقة لكل من الفنون التشكيلية في المغرب، النقد الأدبي (في عددين)، السنيما العربية والإفريقية، الكتابة، الوضع الراهن للفكر الفلسفي بالعالم العربي، السلفية والخطاب السلفي (عدد خاص)، بيروت الشهادة (عن الغزو الإسرائيلي لبيروت)، القصة القصيرة في أمريكا اللاتينية. الملف الخاص بالمسألة الثقافية في المغرب كنا اشتغلنا عليه لعدة شهور. يتضمن مواد ذات قيمة رفيعة. حوارات مفصلة ومستفيضة، دراسات وشهادات من طرف أسماء لها حضورها النوعي، ووثائق تاريخية تخص الثقافة المغربية الحديثة. شيء لم يكن معهودا في مسارنا الثقافي في المغرب. مواد كلفتنا مجهودات، وتعاون معنا لإنجازها مجموعة من كبار الكتاب المغاربة، كما اعتمدنا فيها على أنفسنا وإمكانياتنا المحدودة لإنجاح هذا الملف. مرعوبين كنا من حجز مواد العدد، لأننا لم نكن نتوفر على نسخ ثانية من جميع المواد أو أن نقل قسم الحوارات فيها من آلة التسجيل تطلب منا عملا مرهقاً لأيام متتالية. والشرطة بإمكانها أن تحجز جميع المواد وليس لدينا في المقابل أي قوة لاستردادها.
بين الحزن، الذي يبلغ الحداد على التوقيف، وبين الرعب من تدمير ما هو أكثر من مجهود، سارعت إلى المطبعة. دخلت بجسد لا ينام. وأنا أكتم رعبي من فقدان المواد. صاحب المطبعة الحاج بنشرة، صديق نقابي سابقاً، كان متعوداً على حياة الوقوف وجهاً لوجه أمام الشرطة بكلمات الحق والقانون. هو الضمانة الأولى لعدم ضياع المواد. تطلعت إلى المكان المخصص للتصفيف فرأيت ملفات، ثم بادرت ووضعت يدي على الملف الأول، الذي تبين لي من خلال لونه أنه ملف المجلة. فتحته فإذا بجملة من المواد موجودة. سألت عن المواد الأخرى فقال لي الحاج بنشرة إنها في حوزة مصطفى المسناوي. كانت مواد مصففة تنتظر التصحيح وأخرى لم تصفف بعد. حملت المواد الموجودة كما هي وغادرت المطبعة، التي لم تتوصل بأي أمر بالامتناع عن الطبع.
في مساء الإثنين من الأسبوع الموالي، وأنا أفكر في ما يمكن عمله بالمواد وكيف أنقـذ هذا العدد الذي طال حلمي به، رن الهاتف من تونس. صوت محمود درويش وهو يسألني عن مصير مواد العدد الجديد من المجلة. كان خبر المنع وصله. ذكرت له إنها موجودة، وأغلبها بحوزتي. وهي خاصة عن المسألة الثقافية في المغرب. مباشرة، وبدون أي تلكؤ، قال لي إن مجلة “الكرمل” مستعدة لاستضافة “الثقافة الجديدة” في عددها الجاهز. ثم أضاف : “يمكنني أن آتي شخصيا إلى الدار البيضاء يوم الخميس، وأستلم المواد منك في حدود يومين لأعود يوم السبت”. شكرته بحرارة وقلت له إنني سأكون بانتظاره في المطار، وسأعمل مع أصدقائي على إتمام العمل في الملف حتى يكون جاهزا للتصفيف النهائي.
لم أنتظر. في المساء ذاته، وعلى إثر انتهاء المكالمة مع محمود، أخبرت عبد الله راجع ومحمد البكري ومصطفى المسناوي ومحمد العشيري بأني قادم في الصباح الباكر. قبل الثامنة. في بيت عبد الله اجتمعنا. عبد الله والبكري والعشيري وأنا. تكلمنا بشان الاستضافة ففرحوا معي بالنبإ واعتبرنا موقف محمود درويش انتصارا على من يريدون إبادة “الثقافة الجديدة” وهذا العدد بالذات. اتفقنا بسرعة على الاتصال بمصطفى المسناوي، وأخذ رأي المشاركين في العدد احتراماً لإرادتهم وثقتهم فينا، كما اتفقنا على خطة مشتركة للقيام بإعداد الملف في الموعد المحدد حتى لا يطرح أي مشكل تقني عند إعادة التصفيف والإخراج في نيقوسيا بقبرض، التي كانت تصدر فيها مجلة “الكرمل”. وزعنا العمل بيننا وأضفنا متطوعين لمساعدتنا في إعادة كتابة مواد لكونها مكتوبة بخط يكاد يكون غير مقروء، وتصحيح المواد المصففة، وترتيب المجموع وفق ما كنا نعده للمواد في العدد الذي كان من المرتقب صدوره في الدار البيضاء بعد شهرين.
يوم الخميس ظهراً وصل محمود من تونس. استقبلته في مطار محمد الخامس واتجهنا مباشرة إلى بيتي. عندما دخل وجد خلية تعمل بدون توقف. كان فرحاً بما قمنا به. كانت هناك مواد لا تزال معلقة، فسأل عنها. وبعد ذلك قررنا التنازل عنها، لوفرة المواد وتجنبا لتعقيدات لم نكن آنذاك مستعدين لها. يومان من العمل المتواصل، من الصباح الباكر حتى آخر وقت في المساء. نعمل ونضحك. نرى السماء صافية أمامنا ونتابع العمل. كنا كما لو عثرنا على كنز في أرض جرداء، تحتاج الحفر بذراعين صلبتين، لا تشتكيان من التعب. كؤوس القهوة. والأتاي. والسجائر. المواد التي ننتهي منها تصبح مثل خابية الكنز المفتوحة. بريق في عيوننا فرحاً بما ننجز. كنا حازمين جميعاً. ومحمود يكاد لا يفارقنا. ينظر إلينا ونحن نعيد الكتابة أو نقوم بالتصحيح. يأخذ مواد ويقرأها أو يراجعها. يستفـسر عن عبارات ليتأكد من صحتها، يطلب معلومات عن مواد وتوضيحات عن مشاركين أو عن أسماء كتاب مغاربة لا يعرفهم. يرتب معنا. ينظم. يعلق على مقاطع أو فقرات. وضحكاتنا ترتفع. فنحن في عملنا ننسى ما قام به السيد الوزير. وننسى الرعب الذي عشناه من فقدان المواد. الآن حلمنا في إصدار هذا الملف الفريد قريب من التحقق. وفي مجلة ستعطي العدد صداه الذي لم يكن بوسعه أن يتحقق له لو أنه نشر بطريقة عادية. عملنا دائب. في النقل والتصحيح والتنظيم والترتيب. يومان من العمل بحضور محمود. ونحن متحلقون حول المكتب، أو في جوانب متفرقة من مكتبتي في البيت. أمامة تهيئ الأكل والمشروبات. يخاطبها محمود بكلمات تخفف عنها العبء. ونحن لا نحتاج لشيء. كل ما نقوم به يعطـينا القوة المفتـقدة.
يوم السبت صباحا، حوالي الساعة الثانية عشرة، كان الملف جاهزا. لم أصدق السرعة التي أنجزنا بها العمل وأنا أرى الملف ينتقل من يدي إلى يدي محمود درويش، مادة مادة، الكل مهيأ بوضوح وأناقة لا يبقى معهما سوى القيام بالتصفيف النهائي. تلك الحوارات المطولة مع عبد الله إبراهيم في موضوع “الحركة الوطنية والعمل الثقافي” وعبد الله كنون عن “التقليد والتجديد” ومحمد عابد الجابري بخصوص “مسار كاتب” وعبد الله العروي في “الأفق الروائي”. محاور لم يسبق من قبل تناولها أو البحث فيها. تتعرض لما هو غير مفكر فيه أو منسي في الثقافة المغربية الحديثة ومثقـفيها. هناك أيضا عبد الكبير الخطيبي ومحمد عياد وعبد اللطيف اللعبي وأحمد الرضاوني ومحمد شبعة ومحمد القاسمي وأنا. حقول في البحث العلمي والتاريخ الثقافي الوطني والقراءة والنقد الأدبي والفنون التشكيلية. كل ذلك في ملف انتقينا مواده بعناية من أجل أن يكون مدخلا موسعا لإعادة التفكير في أسئلة التحديث الثقافي في المغرب، ونافذة موسعة لتمكين المثقفين العرب من الاقتراب أكثر مما عرفه المغرب الثقافي الحديث ومن سعي نخبة من كتابه وفنانيه للانتقال بالثقافة المغربية إلى وضعية تتفاعل مع التحديث الثقافي العربي.
وفي العدد الحادي عشر من مجلة “الكرمل” الصادر بنيقوسيا في ربيع 1984، وبعد حوالي شهرين فقط من قرار توقيف “الثقافة الجديدة”، نشرت مواد العدد في ملف مستقل تحت اسم المجلتين معاً بعنوان “الثقافة في المغرب”، في 160 صفحة (من ص. 111 حتى ص. 271) ما عدا مادتي كل من محمد شبعة ومحمد القاسمي ضمن “أقواس” من العدد الثاني عشر. وقد وضع محمود كلمة تقديمية مرنة، جاء فيها ” هذا الملف الخاص عن المسألة الثقافية في المغرب، تم إنجازه نتيجة التعاون بين مجلة “الكرمل” ومجلة “الثقافة الجديدة” المغربية، ولكن توقف الزميلة المغربية عن الصدور جعل “الكرمل” تنفرد بنشر أهم موضوعات الملف”. وجدنا في مرونة العبارة رغبة ذكية في تجنب منع توزيع العدد في المغرب، لأن وقوع ذلك يعني عدم وصول ما كنا نريد للمغاربة أن يطلعوا عليه في هذا الملف، وبالتالي انتصار السلطة علينا فيما كانت مبادرة استضافة العدد هو الانتصار على السلطة.
وكان توزيع العدد حدثاً. سبعة آلاف نسخة وصلت إلى المغرب وبيعت في وقت وجيز. هناك من أخبرني بأنه سافر من الدار البيضاء إلى طنجة لشراء نسخته لأنه سمع أن نسخاً تأخر بيعها في طنجة مقارنة مع سرعة نفاد النسخ في كل من الدار البيضاء والرباط ومراكش وفاس. لم تعبر السلطة عن أي استياء أو تشنج. تركت العدد يباع في السوق إما لأنها لم تكن تعرف ما قمنا به، أو لأنها لم تستطع منع مجلة قادمة من خارج المغرب ولا شيء في الملف يستوجب المنع. لم أتعرض لا أنا ولا أي واحد من أصدقائي في المجلة لأي نوع من المضايقة المباشرة. ثم علمت لاحقا أني كنت مراقبا في كل اتصالاتي وعلاقاتي ومراسلاتي بشكل يومي لمدة سنة، وأن الشرطة تخلت في النهاية عن مراقبتي. وكما كان محمود درويش نبيلا باتخاذ موقف التضامن، كان كريما مع المجلة، حيث تكلف بتسديد ديون المطبعة على المجلة وقيمتها بلغت آنذاك سبعة وعشرين ألف درهم.
4.
استضافة عدد من “الثقافة الجديدة” في “الكرمل” كان تعبيراً عن موقف التضامن مع قضية ثقافية ومع حرية التعبير. وأنا أحتفظ لمحمود درويش بهذا الموقف النبيل وأظن أن الثقافة المغربية ستذكره له. ففعل التضامن مع مجلة كانت تحمل همّ التحديث والانفتاح والمغامرة حقق ما هو ضروري في العلاقة بين المثقفين، وأبرز نشر الملف كما لو كان بياناً يعلن عن وجود قوة ثقافية مترسخة بين المغرب والمشرق، كما تزامن التضامن مع نشر ملف تحول إلى علامة فارقة في الصحافة الثقافية المغربية.
ولم تكن استضافة العدد مقطوعة عن تاريخ علاقة محمود درويش بالثقافة المغربية. لقد كان محمود من بين أبرز الواعين بما أخذت الثقافة المغربية تضيفه من جديد في الفكر والإبداع والدراسة والبحث إلى الحياة الثقافية العربية. وهو كان قريبا من المغاربة، يعرفهم معرفة شخصية ويرتبط بعدد منهم ارتباط الصداقة ويقرأ لهم ويتبادل وإياهم التقدير. ولهذا كان حريصاً على أن يفتح لهم أبواب مجلة “الكرمل” كما سبق له من قبل أن فتح لهم مجلة “شؤون فلسطينية” التي ترأس تحريرها في بيروت. كان ذلك معناه أن الأدباء والكتاب الساعين إلى بناء خطاب ثقافي جديد في المغرب أصبح لهم في “الكرمل” صديق يدافع عن كتاباتهم ويقدم لها ما تنتشر به عربياً. وكانت “الكرمل” من جهتها تجد في هذه الإبداعات والكتابات المغربية جانباً من شخصيتها التي تبحث عنها، أو وجهاً من الثقافة التي تريد لها أن تصبح متداولة في الحياة الثقافية الفلسطينية، بل وفي الحياة الثقافية العربية عموماً.
وفي الاستضافة ما هو دال في زمن كان التضامن فعلاً يواصل المقاومة الثقافية بين أفراد ليس لهم سوى كفاءاتهم وجرأتهم. بهذا أستعيد تلك اللحظة، لا أتذكرها لمجرد الحنين أو التفاخر. هناك ما علينا الالتفات إليه، في الزمنين معاً، ذاك الذي كنا فيه نكتب القصيدة كأنها قصيدتنا الأخيرة، وننشر بكل ثقة في مواجهة المانعين لحريتنا والغاضبين على جرأتنا، ونطبع المجلة على نفقتنا وننشر الكتاب على نفقتنا ونسافر للمشاركة في أمسية شعرية وفي ندوة ثقافية على نفقتنا دون أن يخطر على بالنا أن ما نقوم به سلّمٌ نصعده لنحصل على منفعة أو امتياز. من هنا كان التضامن بدوره حاملاً لدلالة تقاسم عطش الحرية.
5.
تضامن محمود درويش مع قضية ثقافية في المغرب. وهي تشير إلى أن لمحمود حياة لم يكن يشهرها أمام الناس. كان لسلوكه أشكال من المقاومة. هو كذلك كان. بطريقته هو وفي مناطق وبلاد، ومع عدد من الكتاب والمثقفين. لم يكن يضع حاجزاً بينه وبين أسئلة الثقافة أو أوضاع حرية التعبير عربياً وعالمياً. أصدقاء محمود درويش في أكثر من مكان يعرفون هذا الركن الظليل من حياته. لا شك أن كل واحد يتذكر ذلك. منهم من يثبته في مذكراته ومنهم من ينشره هذه الأيام أو يتبادله مع آخرين.
حياة محمود درويش بهذا المعنى غنية مثلما هي أعماله الشعرية والنثرية على السواء. وإذا كنت من بين الذين لا يخلطون بين حياة الكتاب وأعمالهم، فإنني، من ناحية أخرى، أجدني على وفاق مع الذين يرون أن ما يقوم به كتاب ومثقفون من أجل كرامة الثقافة وحريتها فعلٌ يحتاج هو الآخر إلى التدوين والتعريف. فهو فعل تضحية من أجل الأعمال والأفكار التي قضى كتاب وفنانون حياتهم من أجل أن يتقاسمها الناس المحبون للحرية، في كل مكان من العالم، ليبدلوا رؤيتهم إلى حياتهم.
أستعيد تلك اللحظة في صورها المتشابكة. وأنتخب من تلك الصور ما أود أن يبقى اعترافاً حياً بما كان لمحمود من قيم مقاومة كانت من صميم سلوكه ومواقفه. وهي بطبيعة الحال من أجمل ما ورثه عن الثقافة الحرة وعن المثقفين الأحرار عبر التاريخ. فتضامنه غير المشروط مع “الثقافة الجديدة” كان الكلمة العليا التي تجاوزنا بها ما كانت المجلة تتعرض له من مضايقات خصوم ومن موانع سلطة. وهو كان يعرف جيداً ما كانت تعانيه “الثقافة الجديدة” في المغرب وما كنت شخصياً أعانيه من تعذيب ممنهج على يد من كانوا يدعون الدفاع عن الحرية والديمقراطية. تضامنه أتى ليقول لنا كلمة الصدّيقين : “ابقوا أحراراً ولن تكونوا وحيدين في عذابكم من أجل الحرية.” كلمة كانت بداية سفر آخر، مقبل من المستقبل، في ليل لم أتنازل فيه عن معنى الكلمات. وليس لي غير الوفاء لما كنت يا محمود وما فعلت.
محمد بنيـس