1.
غيومٌ قليلة تمسح جنَباتٍ من السماء، والضوءُ ينزل بصفرة لها طبقاتُ الرمل. سماءٌ ورملٌ يتجمّعان ثم يفـترقان، على مقرُبة مني، في الصمت الذي يُلازمني عبر الأيام والليالي، منذ تلك الأيام التي نُسمّيها الطفولة الأولى. أنا الآن تحت سماء، هي غيرُ سمائها في فاس. سماء الأطلسيِّ، التي أقف الآن تحتهَا في المحمدية، نديةٌ ورطبةٌ في آن. أما سمائي الأولى في فاس، فمُتخـفّية بين أنحاء الصمت، ولا أحدَ يعرف نسيجَها أو رائحتَها. أنا الوحيدُ الذي يعرفُها، لأنها تسكنُ العينَ ولا تفارقها. سماءٌ تدنُو من سقف الغرفة بنجُومها التائهة. ألوان بلُّورية وصرخةٌ في أعلى السقف. وأنا قريبٌ من الفراش، ومنَ العينيْن المُغمضتيْن، ومن الدّم والصرخة. سماءٌ وصرخةٌ وأنا، تحت السقف. يدايَ رطبتان. وبالعَينيْن وحدهما أقـتربُ من السيدة. كنتُ أحسُّ أنها سيّدتي، ولم يُعلمني أحدٌ ذلك. أتمدّدُ على فراش السيدة لأصعدَ إلى النجوم التائهة. صمتٌ في صمْت. وأنا قريبٌ من دمكِ أيتها السيدة.
2.
السيّدة. بهذا أسمّيها وأكْتفي. أخْشَى البوحَ باسْمها فتصابَ بما أخْشاه. لستُ أدري ما الذي يمكن أنْ يُصيبها، ولكني أخشاه. عبثاً أقاوم الخْشيَة، في الطفولة الأولى ومَا يليها. أحافظُ على هيْئةِ الطفولة حتّى لا أسمّيها بغيْر السيّدة. هيَ وأنَا، معاً، نتعلّق تلك الأيامَ الغائرة في الصمت، ومعاً نرحلُ في الغُربة ذاتِها، من يَوْم ليَوْم. منْ مُواجهة لمُواجهة، منْ رائحة لرائحة. والسيّدةُ هناك. أرى إليْها ملطخةً بالدم. وحدَهُ الدّم يُعرّفني بها. وهيَ على الفراش وحيدةٌ وصامتة. الغرفة أرضٌ خارج الأرض. واللحظةُ، التي نحنُ فيها، كأنها بدءُ الخليقة ونهايتُها. سيّدتي وحيدةٌ. عيْني تبصر الآنَ صرختَها. دمٌ فوقَ الفراش والملاءَة. دمٌ ينزفُ منَ الفم والأذنين. اليَدان هامدَتان، بَياضُهما ملطّخٌ بالدم. وسيّدتي على الفراش، وحدَها تحتَ النجوم التائهة.
غرفةٌ مستطيلةٌ فارغة. الزلّيجُ بارد، والجبْسُ بارد، والخشبُ بارد. وهيَ في دمِهَا، سيّدتي. سقفٌ يعلو إلى اللانهائيّ. لا ريحَ في الغُرفة. البردُ وهيَ وأنا، والدمُ، والفراش. سيّدتي متروكة هناك، وحدَها. وبصرْختها أتعلّمُ الملامحَ المتبقيّة من وجْههَا، في تلك الليلة والليالي التي تلتْها، في الصمْتِ والدّم. دفّـتا باب الغرفة مُغلقتان، وعيْناي صَامتتان. أحبُو لأقتربَ من المخدّة وأسْتلقي هادئاً كالهَواء. أرَى إلى السقف والدمُ قريبٌ منّي. لطخاتٌ حمراءُ فوقَ الثياب. أرخبيلٌ منَ الدم، والصمتِ، والبرد. لمْ تلمسْها يداي. مَنْ يقول هل قبّلتني أمْ نادت عليّ ؟ مَنْ يؤكّد هلْ أحسّتْ بي أم وضعتْ يدي بين يديْها ؟ صرختُها في العَينيْن. سيدتي، صرخةٌ تعْصِر آخرَ ما يُقاوم في الصدر. الرجْلان وديعَتان، واليدَان مُنبسطتَان. وأنا أقتربُ، هادئاً، منَ الدم والصّرخة.
3.
لمَ تركُوكِ وحيدةً أيتُها السيّدة ؟ أسألُكِ، اليومَ، هذا السؤالَ الذي لمْ أفكّر قطّ فيه. ربما كانتْ سماءُ هذا الصباح، في المُحمديّة، على الأطلسي، هي التي دلّتني على السؤال. أوْ لربّما كنتُ في حياتي كلها أُشفِـقُ على نفسي من السؤال. أنتِ وحيدةٌ مع الدّم والصرخة. وكفَى. لستُ بحاجة إلى تأويل يُبعدني عنكِ وعن الصمت. لا أريدُ أن أذكِّركِ بشيءٍ مَا. تلاشيْتِ وبقيَتِ الصّرخة. سفَّكِ الترابُ وظلت لطخاتُ الدم وفيةً للَطخات الدمِ، في الغرفةِ ذاتها، في البردِ ذاته.
ولمَ يقتحمُ السؤالُ غياباً وأنا قريبٌ منك ؟ تركُوكِ وحيدةً، وأنا قريبٌ منك. كل واحد منا كان يسهرُ على الآخر، كما لو كنتِ تريْن بدوْركِ إلى دمي القادم. تريْن إليّ في صرخة تعلمتُها من وحْدتكِ، في اللحظات الأخيرة من حياةٍ، لم أجدْ من يحكي لي قليلاً عنها. تركوكِ وحْدك، لينْسَوا الحكايةَ منذ البدء، حكايةَ الطفولة، والشباب، وبيتِ العائلة، ومَنْ كان لكِ يوماً. نسوْكِ. تركوكِ على الفراش، ونحن معاً كنّا على الفراش.
غريبةٌ أنتِ أيتها السيدة ! تَظلّين ماثلةً أمامي، في لحظةٍ لا أختَ لها، لحظةٍ بين المهْد واللحْد. في تلك اللحظة بمفردها وُجدْنا معاً، أنتِ على الفراش بدمكِ وصرختكِ وأنا قريبٌ منك. وحيديْن كنا، أنت وأنا. والسقفُ معَ نجُومه يعلُو بفراغه، الذي يستوْلي عليك وعليّ. لا ترتيلَ ولا بخور. السقفُ العالي وصرختُكِ التي تدفعُ بالفراغ إلى اللانهاية.
غريبةٌ أنتِ أيتها السيدة ! مَنْ أوصاني بالصمتِ، في حضْرتك ؟ مَنْ ثبّت في صدري ألفةً لمْ يهجُم عليّ فيها بكاء ؟ مَنْ وجّه عينيّ إلى دمٍ هو لي مسكنٌ به أقاوم كلّ دم ؟ ولكنْ مِنْ أين تأتيني كلُّ هذه الأسئلة، وأنا على الأطلسي، في منتصف النهار؟ ألأنّ الاقترابَ منكِ أصبح شفافاً ؟ أمْ لأنّ ندائي عليك اليوم هو النداء ذاتُه، في الليل والنهار؟ أيتها الأسئلة، تعْلمين أنّني كنتُ قريباً منها وأنّنا كنّا وحيديْن. في الفراغ تكبُر الصرخة، ثم تكبرُ لأبصرها، تخرجُ، مرة ثانية، من الدم، من جسدك، من الفراش، ومنَ الملابس واليدين الهامدتيْن. أحدّقُ فيها من دون فزَع. صرخةٌ تتموّج بشيءٍ من النشيد والأنين، في الصمت، وظلمةِ الغرفة، والسقفِ العالي.
لحظة سديميةٌ لا مردّ لها. فيها أنتِ وأنا، على الفراش. لحظةٌ كأنها بدءُ الخليقة ونهايتُها. كلّ ثنية فيها تنبسطُ صمتاً لا يشبه الصمت، بين المهْد واللحْد. لحظةٌ معلقة بدَمها الوحيد. وأنتِ، سيدتي، تنفُذين إلى ثنايَا التذكّر والنسيان، في صمتِ الغرفة والنجوم التائهة.
4.
تلك اللحظة لا ثانيةَ لها. بمُفردها ترافقني سحابةً قرمزية، ذاتَ سكينة بعيدةِ الغور، تُضاعف في الأعضاء حَرّاً وزمهريراً يتبادلان الرحمة. تلك اللحظة لا بَعْد لها. ولا أتذكّر نهاية سهَرنَا، جنباً إلى جنب. اللحظةُ اختطفتْها العينُ لتحمل الجرحَ إلى الأبد، في الطفولة والطفولة، من سماءِ فاس إلى سماء المحمدية، وعبر المدارات التي لمْ أكنْ أتوقعها في امتداد الطفولة.
وفي صباح مَا، لعله صباحُ الليلة نفسها، لعله صباحُ ليلة أخرى لمْ تَبتعدْ عنها، وقف أشخاصٌ في وسط بيْتِ جدّي الحبابي، بانتظار نزول صندوق خشبيٍّ طويل، مطليٍّ بالزعفران. في يد أحدهم حبالٌ من القنّب المفتول. لم أرَ الصندوق، ولكنّ لون الزعفران، فوقَ الخشب، لا يزال يشتغلُ، حتى الآنَ، في حواسّي كلها. لمْ أسمع بكاءً، ولا نُواحاً، ولا ندباً، ولا ترتيلاً. رأيتُ الرجال يغادرون البيت، من السَّفليّ، يخرجون إلى حيث لا أدري. لمْ أرَ الصندوق، ولمْ أسأل، ولم أبكِ، ولم أبحثْ عن مكان بينهم.
كنتُ واقفاً على رجلين قصيرتين. مدّ لي أحدُهم حلوى، ربما لأسكتَ، أوْ ربما لأنْسى. وكنتِ في الصندوق بغيْر علْمٍ منّي. أمام عينيّ الزليجُ، وأنا واقفٌ وفي يدي الحلوى. خرجوا والحبالُ في يدِ أحدهم. رأيتُ لونَ الزعفران ولم أرَ الصندوق. غادروا البيتَ من الباب السفليّ، وفي عينيَّ سحابة قرمزية.
ذلك الصمتُ، صمتي أمْ صمتُك ؟ وهل أنتِ التي وضعوك في الصندوق حقاً ؟ وبأيِّ ماء طهّروك منْ دمك ؟ في ذلك الصباح، الذي كانت فيه سَواري البيت عالياتٍ حتى زرقة السماء، كان صمتي يُظللني وكنتُ وحيداً. لمْ أرَ إليك، بعد تلك اللحظة من الليْلِ في غرفة معلقةٍ بالنجُوم التائهة. هل وضعُوا عليك الوشاح الذي تسْتحقّين ؟ هل منحُوك الوشوشة الضرورية لتحْتمِي بها من صمت طويل ؟ وهل كانوا، وهمْ يحملون جسدَك المنهوش، أوفياءَ لوَداعتكِ، سيّدتي ؟
5.
لحظة متأبّدةٌ وأنا ما زلتُ في الصمت. صرختُك أسمعُها الآن، كما كنتُ أسمعُها في الأيام القصية، كأنها صرخةٌ على وحدتنا، في حياة جرّبْنا معاً قساوتها. فبأيِّ ميزان نزنُ هذه القساوة ؟ لا أحدَ منّا يعلم عن قساوة الآخر شيئاً. ولا غيرُنا يعرف عن قساوة حياتنا شيئاً. صرختُك التي أسمعها، تخْتزنُ العذابَ كلّه والقساوة كلها، أيتُها السيّدة !
في الوحدة أو المتاه، في الحَرّ أو الزمهرير، ينزل النداءُ في الصدر، ولاَ أحدَ يسمعه. ليعْتقدُوا ما يعتقدُون. علينا أنْ نعتنيَ بالصرخة وحدها. لا شيءَ غيرُ دبيبها في يدي التي تكتب إليك. وأنتِ صامتة، غيرُ مسْتسلمَة. مسافرةٌ في بعيدك الذي أجهلُ موقعه ومعْناه. بعيدٌ يدلّني على البعيد، في الدم، والصمت، والصرخة.
سحابةً قرمزيةً يتدلّى النداء، على الشاطئ الأطلسيّ، قريباً من مكاننا الوثنيّ. صخرٌ وبحرٌ وضريحُ سيّد في أعلى الهضبة. تترسّخ اللحظة في لحظات، تتسرب إلى الأعضاء والكلمات. من مغارتها تنهضُ تلكَ اللحظةُ وتدنو منكِ ومني، في المتاهات التي لا حدّ لها غيرُ المتاه، بين الدم والصمت. تتجدّد المتاهاتُ وتنْشبك، سحابةً قرمزية، ثمّ دوائرَ تستعيدُ تكوينَها في تمجيد الفراغ.
وأنتِ أيتها السيدة !
أضعُ عليكِ الوشاحَ حتى لا تنْفجرَ عينٌ وهي تنظرُ إليك. ومن غير ندَم أصاحبُ الألم. فصرختُك هي التي علّمتني مَا أرَى، وكيف أرَى. وفي صرختك حُمّاي، من ليلة إلى ليلة.