أختصر وأقول إن المؤتمر السابع لاتحاد كتاب المغرب، الذي انعقد بالدار البيضاء يومي 11 و12 أبريل [1981] تميّز بتراجعات مفجعة تمَّ التنظيرُ لها من خلال شعارين هما “الهُنا والآن”، و”سياسة الإمكانيات لا سياسة المبادئ”. أولُ الشعارين جاء في خطبة الافتتاح، وثانيهما في لجنة البرنامج الثقافي. وهما يهْدفان إلى إفراغ نشاط الاتحاد من كل دلالة.
“الهنا والآن” و”سياسة الإمكانيات لا سياسة المبادئ” إلغاءٌ لاتحاد الكتاب بكل وضوح كفعالية تاريخيّة، واختزاله إلى مُجرد جمعية ثقافية عادية لا قدرةَ لها على توجيه وترسيخ انطلاقة الأدب المغربي الحديث بمعْناه التأسيسي. من هنا لم يكن غريباً أن أجهر داخل المؤتمر، وقبل تنفيذ التراجُعات وأثناءه، بأن فكرة اتحاد كتاب المغرب لم تنضجْ بعد.
إن المؤتمر السابع، بتراجُعاته، عودةٌ إلى المؤتمر الثاني للاتحاد، محوٌ لسنوات طويلة من توضيح مهامّه المرحلية والتاريخية، إحراقٌ لجهود متكاثفة لربط الاتحاد كمؤسسة بالوضع التاريخي للإنتاج الثقافي (المكتوب) وبوسائل فكّ الحصار بحالاته واحتمالاته على هذا الإنتاج.
في المؤتمر الثاني للاتحاد حضَر السياسي فيما غابَ الثقافي، وفي المؤتمر الثالث اتّضحَ التوجيه، وفي الرابع لم يكن بُد من ذلك. وها نحنُ نعود إلى العلائق المرئية واللامرئية بين السياسي والثقافي. صحيحٌ أن حضور السياسي في المؤتمر الثاني أعطى هُوية وطنية وتحررية للاتحاد، وقطعَ الصلات بترْسيم الاتحاد، ولكن السياسيَّ المضاد لم يولّد غير ترسيم مُغاير، خاضع لسلطة أخرى لا ترى في الثقافة إلا تابعاً ذيْلياً، لا همومَ لها ولا معضلات ولا مشاغل. من هنا تميزت أنشطةُ الاتحاد بتركيز الاختيارات الظرفية دونما اعتبار لشرائط وطرائق التحوّل الثقافي في المغرب.
ولم تنفضح هشاشةُ هذا التوجه بسهولة، لأنّ الإنتاج الثقافي المكتوب، وقضايا الثقافة الوطنية، في ارتباطها الكيفيّ والنوعيّ بالتحولات الاجتماعية ــ التاريخية، المتّسمة بتصاعُد النضال السياسي والصراع الطبقي، لم تكن قد طرحَت بعد، بل إن المرحلة لم تكن قد استوعبت بعدُ أهمية الخطاب الثقافي من ناحية، ولم تُفرز كتابة متعددة الاختيارات من ناحية ثانية. في المؤتمر الخامس تجلت السّمات بصعوبات، وفي السادس أخذت شكلها القريبَ من الكائن الراهن، وفي السابع نضجَت النواة، وأصبحت الحقيقة ماثلةً أمام المهمُومين بوضع الكتّاب والكتابات المغربية الحديثة.
تحولاتٌ في القضايا والمواقع أفرزتْها طبيعةُ مشاكل الكتابة والبحث الثقافي. ويأتي تجسّدها بحجم نسبة تصاعُد الكتب المطبوعة، وتكاثر المجلاّت، وحضور الأسئلة الثقافية التي أعطت للنصف الثاني من السبعينيات طابعَ التقدم الملموس للفكر والإبداع في المغرب، وارتباطها العضوي، لا الذيْلي، بالسياسة، كمُمارسة لاختيارات تحرريّة آمن الشعب بهَا وكافح من أجلها. ولن ننسى عذابات الطليعة السياسية ــ الثقافية، وهي تسجّل شهادتها .
في البدء كان الاتحاد تجميعاً لكلّ المهتمّين بالأدب والفكر والفن والبحث والصحافة. في البدء أيضاً كان الاتحاد تجميعاً لأدباء المغرب العربي. ثم في مرحلة لاحقة تأسست اتحاداتُ الكتاب في الجزائر، تونس، ليبيا. وتأسست على الصعيد الوطني جمعياتٌ ذات اختصاص محدد (فلسفة، تاريخ، فنون تشكيلية، مسرح، صحافة …)، أو مهَن محددة. ومع ذلك ظل الاتحاد رباطَ كل الاختصاصات والمهَن بالمعنى الانتخابي لا بمعنى الفعل والتفاعل الثقافيين.
جاء المؤتمر الخامس بميثاق الاتحاد لتحديد الهوية الثقافية التحرريّة، ومع ذلك ظل الفكر المبتذل حاضراً. وكان المؤتمر السادس مناسبةً لتحديد طبيعة المُنتسبين للاتحاد، فاقتصر القانون الأساسي على “منْ نشَر إنتاجاً في صورة عمل ينتمي لأجناس التعبير الأدبي والكتابة الفنية أوْ دراسة تنحصر في مجال الأدب والعلوم الإنسانية”. وكان المقصودُ من العلوم الإنسانية هو ما يتّصل بالأدب والإبداع الفكري. ومع ذلك استمرت الأخلاطُ، وفتحت الأبواب في وجْه من لا ينطبق عليهم القانون، وسُدت في وجه من ينطبق عليهم، تبعاً للعبة الأصوات والانتخابات.
ما معنى اتحاد كتاب المغرب؟ من الصعب الفصلُ بين هذه المؤسسة وبين شرائط الإنتاج الثقافي ونشْره في المغرب، حيث لم تصبح الكتابة بعدُ تقليداً، بل إنها تعيش زمنين في زمن واحد، زمن التكوين وزمن الموت، وهما بداهةً متعارضان. ومن ثم يحتاج المغرب إلى اتحاد الكتاب أكثر مما تحتاج إليه مناطق عربية أخرى. فمهامّه هنا أعقدُ من الدفاع عن الحقوق النقابية، أو تواجد تيار أو تيارات سياسية دون غيرها في قيادة الاتحاد. ليس النشرُ سهلاً ولا بسيطاً في المغرب. فالصحافة خاضعةٌ لسلطة الأحزاب (ومن المؤسف أن القوى الوطنية والتقدمية لا تختلف في هذا عن اليمين)، وهذه لا يهمّها المشروعُ الثقافي بقدر ما يهمّها الانضباطُ الحزبي، واعتمادُ جمعية كاتحاد الكتاب (وغيرها حتماً) ورقة لها سلطتها المناسبة في الوقت المناسب، لردع هذا و تخويف ذلك. ولا بدّ من الرّضا السياسي (بمعناه الحزبي الضيق، وبكل اشتقاقات هذا المعنى) كشرط أول للنشر. ويتحوّل كل خروج، في هذا السياق، على الولاء لرئيس اتحاد كتاب المغرب وــ أو سلطة الصحافة، إقصاءً من النشر، وهو خاضع دوماً لاحتمالات ظرفية لا تلغي القاعدة. وكل الرؤساء الذين عرفهم اتحاد الكتاب متساوون. فهُم جميعاً تحوّلوا باستمرارهم في إخضاع الأعضاء، المقربين والمبعدين، إلى مؤسسة داخل مؤسسة، وكل القوى السياسية متساوية في هذا الطرح أيضاً. فكيف يمكن الفصلُ بين هذه المؤسسات التقليدية و”الحديثة” في إعاقة التحوّلات الثقافية في المغرب؟ وهل تعدّد المجلات والمنابر الثقافية في المغرب، وتدخّل المشرق، واعتمادُ الإمكانات الذاتية، كافية لتقويض البنية التقليدية للإنتاج الثقافي وتأسيس بنية مغايرة؟ طبيعيٌّ ألا يحس بدقة تماسُك هذه القنوات وكثافة التنسيق بين هذه المؤسسات، غيرُ الشباب، وباللغة العربية، لأنهم أولُ من يعايشون التهميشَ ويعانون منه، وغالباً ما يكون مصيرُهم الإبداعي هو الصمت، وقد عضّدت المعوقات التاريخية والثقافية والاجتماعية بعضَها البعض. وما أكثر الصامتين، من المقربين والمبعدين، بعد أن افتقدوا اتحاد الكتاب كفكرة ناضجَة، ترى إلى هذه المؤسسة في ارتباطاتها العضوية بتغيّر بنية الإنتاج الثقافي في المغرب!
تحققت التراجُعات، إذنْ، على مستوى البرنامج الثقافي، وقد خضع للشعارات بدل الارتكاز على تحليل ثقافي ــ سياسي، يراعي المرحلي والتاريخي من قضايا التحولات الثقافية والاجتماعية. وتحققت التراجُعات على مستوى القانون الأساسي. فقد شرعت أبوابُ الاتحاد من جديد، بعد أن اكتشف أهلُ اللعبة أن الكتّاب، من جميع الاختيارات الثقافية والسياسية، يبتعدون يوماً بعد يوم عن الاتحاد، وأن الحاجة إلى أصوات انتخابية لا توفرها غير الإلحاقاتُ الظرفية التي تصل إلى حد الإرغام (وهو ما لا يشرّف كلاًّ من الاتحاد و هؤلاء الأعضاء الملحقين). وتمت التراجُعات عن حيثيات المؤتمر الاستثنائي حتى تكون الهيئة المسيطرة مطمئنة لتطبيق هيْمنتها. وتمّ ترسيخ عدم تحديد شروط الترشيح لمسؤولية المكتب المركزي لتظل الأحزابُ والتحالفاتُ السياسية بينها (وهي شكلية باستمرار) أساسَ تسيير مؤسسة ثقافية. وتجلت التراجُعات، قبل هذا وبعده، في الخُروقات التي لا تحصى لقوانين الاتحاد وتقاليده الجماهيرية والديمقراطية، حتى أصبح حضور الملاحظين ممنوعاً (وكمْ شُوّه بشعار جماهيرية الاتحاد!)، وأصبح التزويرُ في الانتخابات مشروعاً في غياب ممثل عن اتحاد الأدباء و الكتاب العرب (وقد تسلم رئيس المؤتمر، بعد أن سلم المسجلون في اللائحة الرسمية أوراقَهم الانتخابية، ما يقارب عشرين ورقة انتخابية دفعة واحدة دون التأكد من بطاقات هوية أصحابها)، وإعلانُ الرئيس عن رئاسته للاتحاد شيئاً طبيعياً دون اجتماع هيئة المكتب المركزي المنتخبة، ما دام الرئيسُ غير منتخب من طرف القاعدة، وإنما من طرف هيئة المكتب المركزي، كما ينصّ القانون على ذلك. كل هذا تجسّد في ظل تبعية الاتحاد المطلقة للسياسي بمعناه الحزبي، ممّا جعل هذه المؤسسة تؤول إلى فقدان الاستقلالية والخصوصية مرة أخرى، بعد أن قطعَت خطوات جريئة في تحديد هويتها كجمعية ثقافية ذات بعد تحرّري.
ليست هذه وحدها هي مُجمل التراجُعات، ولكنها الأكثر دلالة. لقد بدأ تهييء اللعبة منذ السنة الماضية، بردْع هذا وإرضاء ذاك، باختيار الزمان والمكان (تحولت الدار البيضاء كمدينة جماهيرية إلى حصَار للجماهير، من حيث حضورُ أشغال المؤتمر أو السماعُ بوجوده على الأقل، واختيار قاعة المؤتمر الضيقة يزكي هو الآخر هذا التوجه)، بانتقاء مواد “آفاق”، بالتشهير ببعض الإنتاجات والاجتهادات والمنابر الثقافية، بإلغاء كتب من المناقشة، باستغلال بعض الظروف والأسماء، بتزييف الحقائق، باعتماد التبرير أساساً لكل كلام، بالقمْع الذي يتخلى حتى عن الحدّ الأدنى من اللباقة.
وأبشع تآمر هو ما حصل من تآمر ضد عبد اللطيف اللعبي، بوعْي أوْ لا وعْي، بإصرار أو غير إصرار، باستشارة أو بدون استشارة، بمسؤولية أو لا مسؤولية. أسماء وهمية أو انتهازية، من خلال ما ثبت عليها في السابق وسجل في الوثائق الرسمية للاتحاد، رأيناها تحصلُ على أغلبية الأصوات (لأنها محايدة). ولكن عبد اللطيف اللعبي لم يكن وحده في القاعة، وثق به 43 صوتاً، وبينه وبين أقرب الأسماء المنتخبة 12 صوتاً فقط، وأعلى ما وصل إليه المتقدم هو 71 صوتاً، بينما غاب عن المشاركة في المؤتمر والتصويت ما يقارب 300 (ثلاثمائة) عضو. ولم يشارك في عملية التصويت غير 95 عضواً من بين ما يقارب 130 من أعضاء المؤتمر. حصل عبد اللطيف اللعبي على 43 صوتاً، دون سابق تنسيق أو حاضر تهديد أو إغراء .
إن اتحاد كتاب المغرب، من خلال عشرين سنة، ومؤتمره السابع أيضاً، يحتاجُ إلى قراءة نظرية تعتمد التحليل الملموس للواقع الملموس، لأن اتحاد الكتاب كمؤسسة، وكتداخل للمؤسسات، ضروريٌّ لفهم وتفسير التحولات الثقافية ودلالاتها في المغرب. وإذا كانت هذه القراءةُ من مهمة كل الكتاب المتقدمين، والمهتمّين بسوسيولوجيا الثقافة، والذين يمارسون العمل الثقافي، متفاعلين مع الكتلة التاريخية ذات المصلحة في التغيير، فإننا نريدُ التوكيد على أن هيمنة السياسي على الثقافي في المؤتمر السابع أتى ليفضحَ ادعاءات الرئيس السابق ــ الحالي بصدد استقلالية الاتحاد ككل، بتوجيهه الجماعي، وهو ما لا يعكسُ الحقيقة برمتها. ويكفي أن نذكره الآن بما جاء في استجوابه المنشور بمجلة “المصباح” (عدد25، 6 فبراير 1981)، باعتباره آخر استجواب له قبل انعقاد المؤتمر. يقول محمد برادة “… بعبارة أخرى فإن المطلوب من اتحاد الأدباء العرب، لكي يوجد وجوداً فعلياً، هو أن يتحرر من “قدرية” السياسات القائمة على الوصاية واستدامة النفوذ وربح الوقت. ومثل هذا التحويل، يستلزمُ من الأدباء العرب أن يناضلوا، أولاً، في الساحة الثقافية ضد تبعية الأدب وتسخيره لتبرير الساسة المحترفين ” (التشديد من عندي بعد بتر الفقرة بكاملها في”المحرر الثقافي” في تاريخ 1 مارس 1981). ماذا يمكن أن يقال والكلُّ يعلم، مقربين ومبعدين، أن مخططَ الانتخابات تم من “فوق” على غرار ما يحصل في الاتحادات العربية الرسمية، واتحاد الأدباء والكتاب العرب، بصيغة أو بأخرى، وهو ما يتحكم في شلل هذه المؤسسات جميعاً، وما وقف اتحاد كتاب المغرب ضده في عدة مناسبات عربية تحول أثناءها إلى رمز متألق للدفاع عن استقلالية وخصوصية العمل الثقافي؟
لست عدمياً ولا فوضوياً. فالمبادئ نفسُها التي قادتني دوماً إلى تأييد الاتحاد والوحدة هي التي تفرض عليّ اليوم بسط تراجُعاته على عموم المثقفين، إثباتاً للشهادة،. فمصيرُ هذه المؤسسة يهمّ الثقافة المغربية، وربما العربية أيضاً. إن فاعلية الاتحاد تسير نحو التصدّع والتفتت، وقد أبعدت القاعدة من تقرير المصير فيما تتآزرُ الثقافة الرجعية وطنياً و عربياً من خلال برنامج واضح الملامح والأهداف. إنها الحقيقة المُرعبة التي عاشتها التجربة الثقافية التقدمية في المشرق العربي قبلنا، وقد جاء دورُنا بعد الإصرار على عدم الاستفادة من انتكاسة غيرنا، لأننا نكتفي برفع الشعارات، ونسيان ما نحنُ عليه مقبلون من استهلاك مُستقبلنا الماضي، في المغرب و المشرق على السواء. ولكن هل هذا وحده هو كاملُ ما يحتفظ لنا به المستقبل؟
- خرى، بعد أن قطعت خطوات جريئة في تحديد هويتها كجمعية ثقافية ذات بعد تحرري,…،مجلة الثقافة الجديدة، العدد 20، السنة الخامسة، المحمدية، 1981، ص- ص. 128- 131.